فصل: المقدمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة



.النظر الثالث: في الملتزم:

وهو كل مسلم مكلف حنث، حراً كان أو عبداً، لكن العبد ليس عليه إلا الصوم، فيجزيه بلا خلاف، ولا يجزيه العتق لأن الولاء لغيره. وأما الكسوة والإطعام، فقال في الكتاب: إذا كسا أو أطعم بإذن سيده رجوت أن يجزيه، وليس بالبين، والصوم أحب إلي. وحكى المتأخرون في الإجزاء قولين، وعللوا المنع بأن السيد لم يملكه ما كفر به، وإنما أذن له في صرفه في الكفارة خاصة، فحصل العبد مكفراً بما لم يستقر ملكه عليه، وإنما أمر بالكفارة بما يملكه.

.الباب الثالث: فيما يقتضي البر والحنث:

ويتهذب الغرض من هذا الباب بمقدمة وركنين:

.المقدمة:

اعلم أن المقتضيات للبر والحنث أمور:
الأول: النية، إذا كانت مما يصلح أن يراد اللفظ بها، كانت مطابقة له أو زائدة فيه، أو ناقصة عنه بتقييد مطلقه، وتخصيص عامه.
الثاني: السبب المثير لليمين ليتعرف منه، ويعبر عنه بالبساط أيضاً، وذلك أن القاصد إلى اليمين لابد أن تكون له نية، وإنما يذكرها في بعض الأوقات، وينساها في بعضها، فيكون المحرك على اليمين وهو البساط دليلاً عليها لكن قد يظهر مقتضى المحرك ظهوراً لا إشكال فيه، وقد يخفى في بعض الحالات، وقد يكون ظهوره وخفاؤه بالإضافة.
الثالث: العرف: أعني ما عرف من مقاصد الناس في أيمانهم.
الرابع: مقتضى اللفظ لغة ووضعاً. والمشهور أن هذه الأمور على ما ذكرناه من الترتيب.
وقيل: ينتقل عند عدم السبب والبساط إلى وضع اللغة، ولا يعتبر العرف.
وقال الشيخ أبو الطاهر: إذا فقدت النية والبساط، فهل يحمل اللفظ على مقتضاه لغة، أو مقتضاه عرفاً، أو متقضاه شرعاً إن كان له مقتضى في الشرع يخالف الأمرين؟ في ذلك ثلاثة أقوال. قال الشيخ أبو الوليد: هذا كله فيما كان من ذلك مظنوناً، قال: فأما ما كان معلوماً كقوله: والله لأقودن فلاناً كما يقاد البعير، ولأعرضن على فلان النجوم في القايلة، وشبه هذا، فهذا يعلم أن القصد به خلاف اللفظ. قال: فلا خلاف في أنه يحمل على ما علم من مقصده به. هذا تمام المقدمة، ولنشرع بعدها في الركنين.

.الركن الأول:

في تنزيل مسائل أهل المذهب على ما قدمناه ذكره من الأمور، ويشتمل على أنواع:
النوع الأول: النظر إلى المقاصد، أو إلى السبب المحرك لليمين، كمن حلف: لا ساكن إنساناً، فإنه ينتقل عن مساكنته حتى ينتقل حاله عن الحالة الأولى التي كانا عليها، فإن كان معه أولاً في دار واحدة انتقل عنها، فإنه ضرب بينهما حائطاً حتى تصير دارين ببابين إلى سكتين، فقال ابن القاسم في الكتاب: قال مالك: ما يعجبني، وكرهه. قال ابن القاسم: ولا أرى أنا به بأساً، ولا أرى عليه حنثاً. ولو صار أحدهما في علو الدار، والآخر في السفل، فلا حنث.
وقال ابن القاسم: إن أراد التنحي عنه جملة، فهو أشد، وإن أراد لما يدخل بين العيال، فهو أخف، يريد: في القرب والبعد. ولو كانا في بيت واحد، فانتقلا إلى بيتين في دار، لم يحنث، وإن كانا في حارة واحدة انتقل عنها.
ولو لم يكن بينهما تجاور في دار ولا حارة، بل كانا في بلد واحد، وظهر أنه قصد الانتقال عنه انتقل عنه، وهل يكفيه الانتقال عنه إلى مكان لا يلزمه إتيان الجمعة منه أو لابد من مسافة قصر الصلاة؟ قال محمد: القياس الأول، والثاني استحسان.
ولو حلف ليسافرن، فالنص أنه يسافر مقداراً تقصر فيه الصلاة.
وقال الشيخ أبو الطاهر: وهذا مقتضى اللفظ شرعاً، ولو نظر إلى مقتضى اللفظ وضعاً لكفاه أقرب سفر. أو إلى المقاصد العرفية لاعتبر ما يسميه الناس في ذلك القطر سفراً عرفاً.
فروع ثلاثة: الأول: لو انتقل أو سافر، فلابد من إقامته بالمكان الذي انتقل إليه مدة لها تأثير، لكن اختلف في تحديدها، والتعويل فيها على ما يظهر من القصد.
وقد قال ابن القاسم: لو رجع بعد خمسة عشر يوماً لم يحنث، والشهر أحب إلي إلا أن ينوي الدوام.
ورأى ابن المواز أن القياس إجزاء أدنى زمن، وهو على مراعاة الألفاظ، والأول على مراعاة المقاصد.
الفرع الثاني:
إذا حلف على الانتقال من مسكن، فتأخر مدة يضطر إليها في انتقاله، لم يحنث. فإذا تراخى زيادة على ذلك، فقال ابن المواز: أخاف عليه الحنث، وفي الواضحة: لا حنث عليه.
الفرع الثالث:
أن يحلف على ترك سكنى موضع، فتجب المبادرة بالانتقال، فإن تأخر حنث.
وقال أشهب: لا يحنث بما دون اليوم والليلة.
وكذلك لو انتقل بنفسه، وأبقى رحله بالموضع لحنث، إلا أن يبقى ما لا مقدار له كالمسمار وشبهه على أن لا يأخذه بعد ذلك. ورأى أشهب أنه لا يحنث، وإن أبقى رحله.
النوع الثاني: النظر إلى المقاصد أو إلى مقتضى الألفاظ، كمن حلف: لا كلم إنساناً، فكتب إليه أو أرسل رسولاً، ففي تحنيثه بذلك خلاف: التحنيث بهما، وهو مذهب الكتاب، ونفيه فيهما، قاله أشهب في كتاب محمد.
وروى ابن القاسم وأشهب التفرقة بين الكتاب والرسول، فحنثه بالكتاب دون الرسول، هذا كله مع عدم النية.
فإن ادعى أنه أراد أن لا يشافهه ففي قبول ذلك منه وعدم قبوله ثلاث روايات، يفصل في الثالثة: فيقبل منه في الرسول دون الكتاب.
وإن كتب إليه، فأخذ الكتاب قبل أن يصل إلى المحلوف عليه، فقال ابن القاسم في الكتاب: قال مالك: لا أرى عليه حنثاً، وهو آخر قوله.
فرع:
إذا قلنا: إنه يحنث بالكتاب، فوصل، فلم يقرأه المكتوب إليه، فحكى الشيخ أبو الطاهر في وقوع الحنث قولين، قال: وذلك كما لو حلف لا كلم إنساناً، فكلمه بحيث يسمعه، فلم يسمع المحلوف عليه. فأما لو كتب المحلوف عليه إلى الحالف: فإن لم يقرأ كتابه، لم يحنث، وإن قرأه، فقال ابن القاسم: يحنث.
وقال أيضاً هو وأشهب: لا يحنث. ولو حلف: ليكلمنه لم يبر بالكتاب.
وإن حلف: ليعلمنه أمراً، فعلمه من غيره، فقد نصوا على أنه لا يبر حتى يعلمه.
ولو أسر إلى رجل سراً، وحلف على كتمه، ثم أسر إلى غيره، فتحادث الحالف مع من أسر إليه ثانياً، فأخبره بالسر، فقال الحالف: ذكر لي ذلك، وما ظننته ذكره لغيري، لحنث.
ولو حلف: لا فارق غريمه إلا بحقه، ففر منه، فقال في الكتاب: إن كان إنما غلبه غريمه، وإنما نوى أن لا يفارقه مثل ما يقول: لا أخلي سبيله، ولا أتركه إلا أن يفر، فلا شيء عليه. وإن غصب نفسه أو فرط، فهذا يحنث، إلا أن يقول: نويت إلا أن أغلب أو أغصب.
وفي كتاب محمد: لا يحنث، وكذلك في المستخرجة لابن القاسم.
ولو كان لفظه: لا فارقني، لحنث قولاً واحداً.
ولو حلف أن لا يدخل دار فلان، فانتقلت عن ملكه، لم يحنث بدخولها. فإن قال: هذه الدار، حنث.
ولو انهدمت وخرجت حتى صارت طريقاً، ودخلها، فقال ابن القاسم: أرى أن لا يحنث، قال: ولو بنيت بعد ذلك داراً، فلا يدخلها لأنها حين بنيت بعد فقد صارت داراً.
ولو حلف: لأتناول طعام إنسان، فتناوله بعد أن ملكه آخر ممن يتصرف لنفسه، ولا نقص في ملكه، فلا حنث، فإن كان المتصرف له الحالف كابنه الصغير يأخذ من طعام المحلوف عليه شيئاً، فأكله الحالف حنث.
وقال سحنون: لا يحنث لأن ابن الحالف ملك ذلك الطعام، وزال ملك المحلوف عليه عني. قال أبو إسحاق التونسي: لم يجعل ملك ابنه تقرر على ما أعطاه، فيصير الأب أكل مال ابنه لا مال المحلوف عليه. قال: ولعله أراد أن ذلك يصير للأب، إن يرده، فلما كان له أن يرده لم يتقرر للابن عليه ملك، إلا برضا الأب، فلهذا حنث. قال: وأما لو وهبه هبة كثيرة لها بال لا يقدر الأب على ردها، فأكل منها الأب لانبغى أن لا يحنث لأنه مال لابنه لا يقدر الأب على رده على الواهب.
وحكى الشيخ أبو الطاهر في هذه الصورة قولين، وكذلك حكى القولين فيما إذا كان الآخذ غير كامل الملك كعبد الحالف، وعلل عدم الحنث بالنظر إلى وجود الملك الآن، وعلل الحنث يكونه قادراً على الانتزاع منه، فكأنه غير ملك.
ولو حلف أن لا تخرج زوجته إلا بإذنه، فأذن لها بحيث لا تسمع، فإنه لا ينتفع بذلك.
قال أبو الحسن اللخمي: ولو قال: لا خرجت إلا أن آذن، لم يحنث قياساً على من حلف: ليقضين فلاناً حقه لأجل سماه إلا أن يؤخره، فأخره ولم يعلم.
ولو حلف: ليأكلن طعاماً غداً، فبادر لأكله الآن، حنث، إلا أن يكون مقصوده تعجيل أكله.
ولو حلف: ليقضين غريماً له حقه الغد فقضاه اليوم، لبر؛ لأن المقصود التعجيل إلا أن يريد المطل..
ولو حلف: لا آكل، فشرب سويقاً أو لبناً، حنث إذا قصد التضييق على نفسه بترك الغداء. ولو كان قصده الأكل دون الشرب، لم يحنث.
ولو دفن مالاً فنسي مكانه، فبحث عنه، فلم يجده، فحلف على زوجته أنها أخذته، ثم وجده، لم يحنث لأن قصده: إن مر فهي آخذته.
ولو حلف: ليضربن عبده عشرة أسواط، فجمعها وضربه بها ضربة واحدة، لم يبر.
ولو حلف: أن لا يتكفل بمال، فتكفل بوجه، حنث على المنصوص أيضاً. ورأى أبو الحسن اللخمي أن القياس عدم الحنث.
ولو حلف: ليقضينه حقه إلى أجل، فقضاه فوجد نقصاً أو زيوفاً أو عيباً، حنث.
قال أبو الحسن اللخمي: وهذا مراعاة للفظ، وأما على النظر إلى المقاصد، فلا يحنث.
ولو حلف: أن لا يفارق غريمه إلا بحقه، لم يبر بالرهن ولا بالكفيل ولا بالحوالة. وإن كانت يمينه: إلا بثقة من حقه، بر بالرهن والكفيل والحوالة أيها كان. وإن حلف: أن لا يفارق، وبينه وبينه معاملة، بر بالحوالة دون الكفيل والرهن.
وإن حلف: ليقضينه حقه إلى شهر كذا، أو حين انقضاء الشهر، أو عند انسلاخه، أو بحلوله، فقيل: يكون له يوم وليلة من الشهر الثاني. وقيل: يجب الوفاء قبل انقضاء الأول، فإذا انقضى وقع الحنث. ولو قال: في الهلال، لكان له يوم وليلة.
النوع الثالث: الالتفات على النظر إلى الأغراض أو إلى مقتضى الألفاظ في اللغة أو في الشريعة، كما لو حلف: لا كلم فلاناً، أو ليهجرنه الأيام، فالمنصوص أنه يهجره أبد الدهر.
قال الشيخ أبو الطاهر: وألزم أبو الحسن اللخمي أنه يبر بهجرانه أيام الجمعة من الخلاف.
فمن حلف ليهجرنه الشهور، ففي قول: يهجره الدهر، وفي قول يهجره شهور السنة؛ لقوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً}.
قال: وهذا من أضعف ما يعول عليه من الألفاظ الشرعية.
ولو حلف: ليهجرنه، ففي العتبية والواضحة: أنه يبر بهجران ثلاثة أيام، لأنها نهاية الهجران الجائز شرعاً. وفي كتاب محمد: لا يبر إلا بالشهر، لأنه الزمان المحدود في العقود، وكثيراً ما تقع الأيمان عليه، فكأنه المعتاد.
ولو قال: لأطلبن هجرانه، فقال محمد: يهجره سنة. وقيل: شهر يجزيه. قال أبو الحسن اللخمي: وقول محمد احتياط، ليس أنه لا يجزي دون ذلك، قال: فإن كان بينهما مصادقة ومصافاة فالشهر طويل، وتلحق فيه المشقة، وإن لم يكونا على ذلك، فالشهر قليل.
ولو قال: لأهجرنه أياماً أو شهوراً أو سنين، للزمه أقل الجمع، وهو ثلاثة.
ولو حلف: لا كلمه أو لا فعل حيناً، فالمنصوص أنه يكون مقتضى يمينه سنة؛ لقوله تعالى: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ}. ورأي أبو الحسن اللخمي أنه ينطلق على اليسير من الزمن والكثير؛ لقوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ}.
قال الشيخ أبو الطاهر: لكن الحين ها هنا مفترق بالمساء والصباح، والحين الذي وقع الكلام فيه مطلق.
ومما سلك به مسلك الحين: الدهر والزمان والعصر، إذا كان منكراً، فإنه ينصرف إلى السنة. لو عرفه بالألف واللام، فقيل: هو كالأول، ينصرف إلى السنة.
وقال الداودي: الأكثر في الزمان والدهر مدة الدنيا. قال أبو الحسن اللخمي: يريد الأكثر من القول. وروي في كتاب ابن حبيب في الدهر أنه أكثر من سنة. قيل لمطرف: فسنتان؟ قال: قريب، وما أوقت فيها وقتاً.
النوع الرابع: يلتفت على النظر إلى العرف، أو أصل التسمية في اللغة، كالحالف أن لا يأكل لحماً، فإنه يحنث بأكل لحم الحوت. وأشهب: لا يحنثه إلا بأكل لحوم الأنعام الأربع خاصة، دون الوحش وغيره.
وكذلك لو حلف: أن لا يأكل بيضاً، فابن القاسم يحنثه حتى ببيض الحيتان، وأشهب: لا يحنثه إلا ببيض الدجاج، وما العادة تناوله كثيراً، واستحسن تحنيثه بأكل بيض سائر الطير، والقياس عنده الاقتصار على ما العادة أكل بيضه، كالدجاج وما في معناها.
وكذلك الحالف لا أكل رؤوساً، فأكل رؤوس الطير والحيتان، يحنث عند ابن القاسم، ولا يحنثه أشهب إلا بأكل رؤوس الأنعام الأربعة.
وكذلك لو حلف: لا آكل خبزاً، هل يحنث بأكل ما يصنع من الحنطة كالإطرية والهريسة والكعك، أم لا؟ قال الشيخ أبو الطاهر: والكعك أقرب إلى الحنث، لأنه ملحق بالخبز قطعاً. قال: ولو بدا ما يدل على التخصيص، لم يختلف فيه، وكذلك لو بدا ما يدل على التعميم، بأن يقصد التضييق على نفسه لحنث.
ولو حلف: لا آكل عسلاً، فأكل عسل الرطب، فالمنصوص لابن القاسم تحنيثه، إلا أن تكون له نية. وأجرى الشيخ أبو محمد على مذهب أشهب نفي الحنث.
ولو حلف: لا آكل أداماً، لجرى على الخلاف: هل يحنث بكل ما يؤتدم به، أو يجري الأمر على ما يؤتدم به في العادة؟
وكذلك لو حلف: لا آكل فاكهة، ففي الرواية يحنث بالباقلي الخضراء، وما أشبهها وهو يرجع إلى ما تقدم.
وكذلك لو حلف: لا كلم إنساناً، فسلم عليه، فإن كان في غير الصلاة حنث، وإن كان في الصلاة، فهل يحنث أم لا؟ مذهب الكتاب: نفي الحنث، إذا كان مأموماً والمحلوف عليه هو الإمام فرد عليه. وفي كتاب محمد: أنه يحنث. ولو كان الإمام هو الحالف فسلم تسليمتين حنث، قاله في كتاب محمد. ورأى أبو الحسن اللخمي نفي الخلاف في التسليمة التي يخرج بها من الصلاة، قال: وإنما الخلاف فيما عدا ذلك، وقد أحنثه ابن القاسم إذا حلف على نفي الكلام، فصلى وراءه ففتح عليه. قال الشيخ أبو الطاهر: وعلى النظر إلى المقاصد لا يحنث.
ولو حلف: لا أكلمه، فكلمه بحيث لا يسمع، لم يحنث. وإن كلمه بحيث يسمع، فلم يسمع لشغل أو غيره، أو كان نائماً فصاح به فلم يستيقظ، فهل يحنث لأنه قصد كلامه، أم لا يحنث إذ لم تحصل المواصلة بذلك؟ قولان لابن القاسم.
النوع الخامس: النظر إلى التمادي على الفعل، هل يكون كابتدائه في البر والحنث، وقد قالوا فيكم حلف على ركوب دابة أو لباس ثوب، وهو راكب ولابس: أنه ينزع وينزل، فإن تمادى كان كما لو ابتدأ، وقد تقدم ما في السكنى.
ولو حلف: لا يدخل داراً، وهو فيها، فهل يلزمه الخروج حينئذ؟ قولان. قال ابن القاسم: لا شيء عليه إن لم يخرج.
وقال أشهب في كتاب محمد: إن لم يخرج مكانه حنث.
قال الشيخ أبو الطاهر: ومقتضى ما قالوه في اللباس والركوب ما قاله أشهب. قال: والفرق عند ابن القاسم حصول التسمية في اللابس والراكب بالدوام، وعدم حصول اسم الدخول بالبقاء في الدار.
وأما لو قال للحائض: إذا حضت، أو للطاهر: إذا طهرت، أو للحامل: إذا حملت، فأنت طالق. فقال سحنون: هو على وجود هذه في المستقبل. قال الشيخ أبو الطاهر: ولا شك أنها تتصف بهذه الأسماء في الحال، لكن من حملها على الموجود في الاستقبال رأى أن المقصد وظاهر اللفظ يقتضي وجوداً مستأنفاً، لا ما هو حاصل الآن. قال: ومبنى هذا النظر على مراعاة الألفاظ والمقاصد، لكن الخلاف: هل يعجل بالطلاق، أو يستأنى به حتى توجد هذه الأفعال؟ على أصل ثان، وهو من علق بيمينه على ما الغالب وجوده، هل يعد كالموجود أم لا؟.
ويلاحظ هذا الأصل أن يحلف: لا دخل على إنسان بيتاً، فدخل المحلوف عليه على الحالف، ففي تحنيثه بذلك خلاف، وفيه قال مالك: لا يعجبني. قال الشيخ أبو الطاهر: ومقتضى لفظه نفي الحنث، إلا أن يريد أن لا يجتمع معه. قال: ولم يحنثوه باجتماعه معه في المسجد، سواء حلف: لا دخل عليه، أو لا اجتمع معه في بيت، وفيه قال مالك: ليس على هذا حلف. قال: وأحنثوه بالحمام. وفرق ابن المواز بأن الحمام لا يلزم دخوله، بخلاف المسجد، وتعقبه أبو الحسن اللخمي بأن له مندوحة أيضاً عن المسجد، بأن يصلي في غيره. قال أبو الحسن اللخمي: قول مالك ليس على هذا حلف، حسن. وليس القصد المسجد والحمام.
ولو دخل عليه في بيت، وهو ميت، فروى أشهب أنه يحنث.
وقاله عبد الملك.
وقال سحنون: لا يحنث.

.الركن الثاني:

في التنبيه على خلافهم في الحمل على مقتضى اللفظ إذا عدم ما قبله من المحامل، ويشتمل على ثلاثة أنواع:
النوع الأول: إذا حلف على فعل ما، فهل يحمل على أقل ما يحتمله اللفظ بناء على الأصل في براءة الذمة، أو على الأكثر بناء على عمارتها به؟ وهذا هو المشهور من المذهب.
وعليه الخلاف فيمن حلف: لا آكل رغيفاً، فأكل بعضه، فإنه يحنث في المشهور.
ولو حلف: ليأكلنه، لم يبر إلا بأكل جميعه قولاً واحداً، لأن كل جزء منه محلوف عليه.
ولو حلف بطلاق زوجته إذا وضعت ما في بطنها، فوضعت ولداً وبقي ثان، لجرى على القولين.
وكذا لو علق الطلاق على الوطء، لحنث بمغيب الحشفة على المشهور، وعلى القول الآخر: لا يحنث بدون الإنزال.
وكذا لو حلف: لا هدم حائطاً أو بئراً، فهل يحنث بفعل البعض أم لا؟ القولان، ولو حلف: لا آكل خبزاً وزيتاً، فأكل أحدهما، جرى على الخلاف عند فقد النية.
النوع الثاني: أن يحلف على فعل شيء فينتقل.
فإن انتقل إلى ما ليس هو معداً للانتقال إليه، كمن حلف ليأكلن طعاماً، ففسد فأكله، فقيل: لا يحنث لأنه قد أكله، وقيل: يحنث، لأنه لم يأكله طعاماً.
ولو انتقل إلى ما هو معد للانتقال إليه، وقد ذكر في يمينه لفظه من كقوله: لا أكلت من هذا القمح أو اللبن، فإن قرب تغيره ولم يبعد، فالمذهب كله على أنه يحنث، وإن أكله منتقلاً، وإن بعد تغيره، كمن حلف أن لا يأكل من هذا الطلع، فأكل من بسره أو رطبه أو ثمره، فالمشهور أنه يحنث أيضاً.
وقال محمد: استحسن أشهب أن لا حنث عليه، لبعد ما بينهما في الطعم والمنفعة والاسم.
فلو كان المتناول ما يتولد من الشيء تولداً لا يكون جزءاً منه؛ كقوله: لا أكلت من هذه الشاة، فشرب من لبنها، لم يحنث، إلا أن يريد ترك الانتفاع منها من كل وجه.
وفي حنثه بأكل ولدها خلاف حكاه ابن ميسر، سببه النظر إلى أنه ليس بجزء حقيقة فأشبه اللبن، أو النظر إلى أنه مشبه لها، فأشبه الجزء.
ولو لم يذكر لفظة: من فإن نكر، فالمذهب أنه لا يحنث فيما يتولد من ذلك الشيء، إلا أن يقرب جداً، كالسمن من الزبد، ففيه قول بالحنث. وإن عرف، فأشار إلى معين وبعدت الاستحالة، فلا حنث، وإن قربت جداً، وكان الغالب أن ذلك الشيء لا يؤكل إلا بعد أن يصنع فيه ما صنع، حنث. قال ابن المواز: ولم يره ابن القاسم إلا في خمسة.
من حلف: لا آكل هذا القمح فأكل خبزه، أو هذا اللحم، فأكل مرقته. وكذلك أجرى حكم من قال: لا أكلت هذا العنب، فأكل عصيره، أو الزبيب أو التمر، فأكل نبيذهما، لأن أجزاء هذه المعتصرة هي بعينها التي أكل، ولم تبعد الاستحالة، أو هذا اللحم، فأكل شحمه؛ لأن الاسم ينتظمه.
ووقع لابن المواز: من حلف لا آكل هذا القمح، فأكله خبزاً، أنه لا يحنث. قال الشيخ أبو الطاهر: ولعل هذا لبعد الاستحالة، أو يكون قولاً في أن ما انتقل إليه لا يحنث به. قال: ولا يحلق بذلك السمن والزبد والجبن واللبن، والرطب من البلح والبسر عند ابن القاسم.
وقال ابن وهب: إنه يلحق به.
النوع الثالث: إضافة المحلوف عليه إلى غيره، فإن لم يستهلك بالإضافة حنث بأكله، وإن استهلك جداً كالخل، يحلف لا أكله، فيأكله مطبوخاً، لم يحنث. وقيل: يحنث.
فإن لم تبعد استحالته كالسمن يلت به السويق، فإن لم تكن نية ولا بساط ووجد طعم السمن حنث بأكله قولاً واحداً، وإن لم يجد طعمه، فظاهر الكتاب أنه يحنث.
وقال ابن ميسر:
لا حنث عليه.
وقد سئل الشيخان أبو عمران وأبو بكر بن عبد الرحمن عن الفرق بين مسألتي الخل يطبخ به، والسمن يلت به، فرأى الشيخ أبو عمران: أن السمن لا يستهلك مع اللت بل يبقى معه جزء قائم وإن قل، فيحنث بأكله. ورأى أبو بكر: أن السويق لو عصر لخرج منه سمن. ويتم الغرض من الكتاب بذكر أربع مسائل:
الأولى: أن كل من حلف أن لا يفعل فعلاً حنث بحصول الفعل منه سهواً وعمداً وخطأ وقصداً.
قال الشيخ أبو الطاهر: ورأي أبو القاسم السيوري ومن اتبعه من محققي الأشياخ: نفي الحنث إذا سها عن اليمين، ففعل ناسياً لها كمذهب الشافعي. قال: وراموا تخريجه من مسألتين:
إحداهما: من حلف بالطلاق ليصومن يوماً سماه، فأفطر فيه ناسياً، أنه لا شيء عليه. ثم ضعف هذا الاستقراء بأنه يحتمل أن يريد: لا قضاء عليه. قال: وهو أحد القولين فيمن أفطر في النذر المعين ناسياً.
والأخرى: من حلف أن لا يبايع إنساناً، فباع ممن هو من سببه، أو ممن اشتراه للمحلوف عليه، ولم يعلم، أنه لا حنث عليه. قالوا: وهذا قد باع ممن حلف عليه ناسياً، ثم قال: وهذا الاستقراء أضعف من الأول، لأن مقتضى اللفظ نفي الحنث ولا قصد؛ إذ لا علم، فلا يحنث ولا بمقصود اللفظ ولا بمقتضى القصد. ثم رد المسألة إلى الخلاف في عمارة الذمة بالأكثر أو بالأقل، وما عزاه إلى المتأخرين من نفي الحنث للنسيان، وهو اختيار القاضي أبي بكر.
ولو فعل المحلوف عليه جهلاً حنث، كما لو حلف أن لا يسلم على زيد، فسلم عليه في ظلمة وهو لا يعرفه. وأما لو أكره، كما لو حلف أن لا يدخل، فحمل قهراً وأدخل، لم يحنث، لكن إن قدر على الخروج فلم يخرج حنث. وكذلك إن حمل بإذنه حنث، وإن سكن مع القدرة على الامتناع حنث أيضاً.
ولو حلف لا أكلم زيداً، ثم سلم على قوم فيهم زيد، فاستثناه بقلبه أو بلفظه، لم يحنث؛ وإن لم يستثنه ولا حاشاه حنث، وإن لم يعلم به، ولو قال: لا أدخل على زيد، فدخل على قوم هو فيهم، حنث.
المسألة الثانية: أن كل حالف فإما أن يحلف على ترك الفعل، أو على الإقدام عليه، فالأول على بر حتى يقع منه الفعل فيحنث، والثاني على حنث حتى يقع منه الفعل فيبر.
وهذا يعتزل زوجته حتى يقع منه الفعل، إلا أن يكون قد ضرب للفعل أجلاً، هل يلزمه الاعتزال.
المسألة الثالثة: من حلف على شيء ليفعلنه، فحيل بينه وبين فعله، فإن أجل أجلاً فامتنع الفعل لعدم المحل وذهابه، كموت العبد المحلوف على ضربه، أو الحمام المحلوف على ذبحها، فلا حنث عليه، بلا خلاف منصوص. وإن امتنع الفعل بسبب منع الشرع، كمن حلف ليطأن زوجته أو أمته فوجدها حائضاً، فقيل: لا شيء عليه، وقيل: إن وطئ أثم وبر، لأنه وطئ؛ وقيل: لا يبر لأنه إنما قصد وطئاً مباحاً. وإن كان الامتناع بمنع مانع كالسارق والغاصب والمستحق، فإنه يحنث، لأن المحل باق، وإنما حيل بينه وبين الفعل فيه.
وقال أشهب: لا يحنث، ورأى ذلك كالموت.
وإن كان الفعل غير مؤقت بأجل، فإن فرط حتى تعذر الفعل حنث، وإن لم يفرط حتى عدم المحل فلا يحنث. وإن تعذر بغيره من الأعذار المتقدمة فالخلاف كما تقدم، وسببه: عمارة الذمة بالأكثر أو بالأقل.
المسألة الرابعة: إن الحنث لا يتكرر الفعل، إلا إذا أتى بصيغة تقتضي التكرار، كقوله: كلما، ومتى ما، وشبه ذلك، أو يقصد التكرار، قاله في كتاب محمد.
وعليه تخرج مسألة الحالف بصدقة دينار من ماله إن نام عن وتره، فنام فتصدق ثم نام بعد ذلك، أن التصدق يجب عليه كلما فعل، فإنه حمل الأمر على أن القصد دوام اليمين.
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وسلم تسليماً.

.كتاب النذور:

النذر: عبارة عن الالتزام والإيجاب.

.والنظر في أركان النذر وأحكامه.

.النظر الأول في الأركان:

وهي ثلاثة: الملتزم، وصيغة الالتزام، والملتزم.
أما الملتزم فكل مكلف له أهلية العبادة، فلا يلزم نذر الصبي والمجنون والكافر.
وأما الصيغة فهي أن يقول: لله علي صوم أو صلاة أو غيرهما من القرب ابتداء ويعلق ذلك على وجود شيء ما كقوله: إن شفى الله مريضي، فلله علي كذا، فلو قال: إن كلمت زيداً فلله علي كذا للزم أيضاً على المعروف من المذهب. قال الشيخ أبو الطاهر: وقد حكى الأشياخ أنهم وقفوا على قولة لابن القاسم: إن ما كان من هذا القبيل على سبيل اللجاج والحرج تكفي عنه كفارة يمين، قال: وكان من لقيناه من الأشياخ يميل إلى هذا المذهب.
ولو قال: إن فعلت فعلي نذر، فعليه كفارة يمين. وكذلك لو قال: فعلي يمين أو كفارة يمين.
ولو قال: لله علي نذر فعل كذا، أو أن أفعل كذا، فيخرج نذره ما سمى، فيفعله إن كان طاعة.
قال ابن حبيب: من قال علي نذر أن أفعل كذا وكذا في يمين أو في غير يمين، فهذا فعله هو نذره، فإن كان طاعة لزمه، وإن كان معصية، فلا يفعل ولا يكفر. قال: فلو قال علي نذر إن لم أفعل كذا فهذا نذره غير فعله، فإن لم يجعل لنذره مخرجاً ولا نواه، فيؤمر أن يفعل الطاعة فيبر، ولا يفعل المعصية، ويكفر كفارة يمين.
ولو حلف بصدقة ماله، فقال: مالي نذر أو صدقة أو في السبيل، أو هدي، أو لوجه الله، قال: مالي أو جميعه، أجزأه من ذلك إخراج الثلث من العين والطعام والرقيق وغيره، إلا أن ينوي العين خاصة. ثم قال أصبغ: إذا قال لوجه الله فمخرجه الصدقة دون غيرها، ولو قال ذلك في عبده، لكان مخرجه العتق. وإن قال: في سبيل الله أو لسبيل الله، كان مخرجه الغزو والجهاد خاصة. ولو قال: نصف مالي أو ثلاثة أرباعه، أخرج جميع ما سمى.
قال محمد: وكذلك إن قال: مالي إلا درهماً، أخرج جميع ذلك. قال: فإن عين فقال: عبدي أو داري، وذلك جميع ماله أو نصفه أو ثلاثة أرباعه، أخرج جميع ما سمى. وروى ابن وهب فيمن لم يعين، وسمى أكثر من الثلث أنه يقتصر على الثلث. وذكر الشيخ أبو القاسم في المعين إذا كان أكثر من الثلث روايتين. إحداهما: أن لا يلزمه أكثر من الثلث.
وقال ابن حبيب: إذا حلف بجميع ماله فإنه يلزمه إخراج ثلثه إذا كان ملياً. فأما القليل المال الذي يجحفه الثلث، فيخرج قدر زكاة ماله، وأما الفقير فيكفر كفارة يمين.
وقال سحنون في جميع ذلك، عين أو لم يعين، يخرج ما لا يضر به إخراجه.
فروع: الأول: إذا حلف بصدقة ماله فحنث فلم يخرج شيئاً، حتى أنفقه، فقال أشهب: لا شيء عليه، ولا يتبع به ديناً.
وقال ابن القاسم: يضمن إذا أنفقه أو ذهب منه كزكاة فرط فيها حتى ذهب ماله.
وقال سحنون: إذا فرط في إخراج الثلث حتى هلك المال. ضمن. وفي الواضحة: ومن حلف بصدقة ماله فحنث، ثم ذهب ماله باستنفاق، فذلك دين عليه.
وإن ذهب بغير سببه، فلا يضمن، ولا يضره التفريط حتى أصابه ذلك.
ولو حلف فحنث وقد زاد ماله، فليخرج ثلثه يوم حلف، وإن نقص، فثلثه يوم حنث.
قال في الواضحة: إن كانت الزيادة بمتجر، فلا يلزمه إخراج ثلثها. وإن كانت بولادة أخرج ثلثها مع ثلث الأصل.
الفرع الثاني:
إذا حلف بصدقة ماله فحنث، فلم يخرج شيئاً، ثم حلف فحنث والمال الأول بيده لم يزد، ففي كتاب ابن حبيب وكتاب ابن المواز: ليس عليه إلا ثلث واحد. قال ابن حبيب: قاله مالك وأصحابه.
وفي كتاب ابن المواز أيضاً: ومن حلف بصدقة ماله فحنث، ثم حلف بصدقة ثلثه فحنث، فليخرج ثلثه الأول، ثم ثلث ما بقي.
وقال مثله في الحالف مرتين بصدقة ماله، ثم قال: يخرج ثلثه مرة واحدة يجزئه، وقاله ابن كتانة، وبالأول أخذ محمد، وقاله أشهب.
الفرع الثالث:
إذا حلف فحنث، وماله مائة، ثم حلف فحنث، وهو مائتان، ثم حلف فحنث، وهو ثلاثمائة، فليس عليه إلا مائة. زاد في كتاب ابن المواز: وقد نما ماله بالتجارة.
ولو حنث أولاً وماله مائة، ثم حنث ثانية وماله ستون، ثم حنث ثالثة وماله أربعون، فليس عليه إلا ثلث المائة التي حنث فيها أولاً، إلا أن يبقى بيده أقل من ثلثها، فلا شيء عليه غير ما بيده، إلا أن يذهب بإتلافه أو أكله، فيلزمه ديناً.
وقال محمد: إذا حلف إن فعل أو أن لا يفعل، لم يضمن ما أكل أو أتلف قبل الحنث. وإن حلف لأفعلن، أو إن لم أفعل، فهو كتلفه بعد الحنث، يلزمه ما ذهب بسببه، ولا يلزمه ما ذهب بغير سببه.
الفرع الرابع:
من قال: كل ما اكتسبه صدقة، فلا شيء عليه، كمن عم في الطلاق والعتق، ولو عين مدة أو مكاناً يكتسب إليها أو فيه، لزمه التصدق بثلث ما يكتسب إلى المدة، أو في المكان عند ابن القاسم وابن عبد الحكم. ولم يلزمه عند ابن الماجشون. وروي عن أصبغ القولان.
ولو قال: كل ما أربحه في هذه السلعة صدقة جرى على الاختلاف، إلا أنه يلزمه التصدق بجملة الربح في القول الأول.
ولو قال: ما أملكه إلى حد كذا، دخل في اليمين ما بيده الآن، بخلاف قول ما اكتسبه.
وإن عقب النذر بقوله: إن شاء الله، لم يرتفع الذي في قوله: علي نذر، أو ما يجري مجراه مما فيه كفارة يمين فقط. ولو قال: إن شاء فلان، لم يلزمه شيء، حتى يشاء فلان، وأما الملتزم فهو الطاعة دون ما عداها.
ثم هو قسمان:
الأول: ما يوجبه على نفسه ابتداء شكراً لله تعالى على نعمه، وهو مستحب.
والثاني: أن يربط النذر بحصول شيء أو ذهابه، كقوله: إن شفى الله مريضي، أو دفع عني شر كذا، فعلي كذا وهو مكروه، وكلاهما لازم.
وكيفما تصرفت أحوال النذر، فلا يقضي به؛ لأنه له وفاء له إلا مع النية، فإذا قضي عليه بغير اختياره لم يكن وفاء.

.النظر الثاني: في أحكام النذور:

.والملتزمات أنواع:

.النوع الأول: الصوم:

فإذا نذر مطلق الصوم كفاه يوم، إلا أن ينوي أكثر.
وكذا في الصلاة تكفيه ركعتان. وأما الصدقة، فيكفيه ما تصدق به، وإن قل. وفي الاعتكاف تكفيه ليلة ويوم.
ولو نذر صوماً، فحكى الشيخ أبو الطاهر في لزوم التتابع ونفيه ثلاثة أقوال: يفرق في الثالث، فيلزمه إن ذكر أعواماً أو شهوراً جملة أو آحاداً، ولا يلزمه إن ذكر أياماً. ولو عين يوماً للصوم تعين. ولو شرط التتابع في صوم لزمه، ولو قال: أصوم هذه السنة، لم يلزمه قضاء أيام العيد وأيام التشريق وأيام رمضان، إلا أن ينوي قضاء ذلك. وروي فيمن نذر صوم ذي الحجة، أنه يقضي أيام النحر، إلا أن ينوي أن لا قضاء لها. قال ابن القاسم: والأول أحب إلي، ويجب قضاء ما أفطر في السفر.
ولو قال: علي صوم سنة، فلن يكفيه إلا أثنا عشر شهراً، ولا تنحط عنه أيام رمضان والعيد والحيض.
ولو قال: لله علي أن أصوم يوم يقدم فلان، فقدم ليلاً، صام صبيحة تلك الليلة. وإن قدم نهاراً، فقال ابن الماجشون وأشهب وأصبغ: يصوم يوماً عوضاً عنه.
وقال ابن القاسم: لا شيء عليه.
ولو قدم في الأيام المحرم صومها، كيومي العيدين، فالمنصوص نفي القضاء.
قال ابن الماجشون: ولو علم أنه يدخل أول النهار، فبيت الصوم لم يجزه؛ لأنه صامه قبل وجوبه. قال عنه ابن حبيب: وليصم اليوم الذي يليه، قاله أشهب وأصبغ.
ولو نذر صيام يوم قدومه أبداً، لزمه، إلا أن يوافق يوماً لا يحل صيامه، فلا يصومه ولا يقضيه. وكذلك إن مرضه، وقال ابن حبيب: يقضي ما مرض فيه، لأنه إنما قصد أن يصوم شكراً، وقد نوى تعجيله، فليصمه في أول ما يصح. ولو نذر أن يصلي قاعداً مع القدرة على القيام، جاز له القعود.
ولو نذر اعتكاف ليلة، فقال سحنون: لا يلزمه شيء، لأن بعض العبادة لا يقوم مقامها في النذور. قال القاضي أبو بكر: وقد خفي عليه وجه العربية التي علمها مالك وابن القاسم في قولهما: إنه يصوم يوماً يعتكف فيه الليلة، لأن العرب تعبر عن اليوم والليلة بالليلة، حتى تقول: صنماً خمساً. قال: فأما من نذر صوم بعض يوم، أو صلاة بعض ركعة، فإنه يلزمه جميعها، كما لو طلق نصف طلقة. قال: فهذا آكد. وقول سحنون ضعيف.
ولو نذر صوم يوم سماه، فوافق يوم عيد، أو يوم حيض، أو مرضاً، لم يلزمه قضاؤه، وقيل: يلزمه.
ولو نذر صوم الدهر لزمه، ولا شيء عليه لأيام العيد والحيض ورمضان، وله الفطر بالمرض والسفر، ولا قضاء؛ إذ لا يمكن.
ولو نذر صوم يوم العيد أو يوم الشك لغا نذره، كما لو نذر الصلاة في الأوقات المكروهة.

.النوع الثاني: في الحج:

فإذا قال: إن كلمت فلاناً، فأنا أحرم بحجة أو بعمرة، فإن كلمه قبل أشهر الحج، لم يلزمه أن يحرم بالحج إلى دخول أشهر الحج، إلا أن ينوي أنه محرم من يوم حنث، فيلزمه ذلك. وإن كان في فير أشهر الحج.
وأما العمرة، فعليه أن يحرم بها وقت حنثه، إلا أن لا يجد صحابة، ويخاف على نفسه، فليؤخر حتى يجد، فيحرم حينئذ. والإحرام في الجميع من موضعه لا من ميقاته، إلا أن ينويه، فله نيته.
ولو قال: أنا محرم يوم أكلم فلاناً، فإنه يوم يكلمه محرم في رأي سحنون. ومذهب الكتاب: أنه لا يكون بحنثه محرماً.
وإن قوله: يوم أفعل كذا، فأنا أحرم بحجة بصيغة المضارعة، كقوله: فأنا محرم باسم الفاعل.
ولو قال: إن فعلت كذا، فأنا أحج إلى بيت الله، للزمه الحج إن حنث. ولو نذر الحج ماشياً، لزمه؛ لأن المشي طاعة. ولو نذر المشي حافياً، لم يلزمه ولينتعل، وإن أهدى فحسن. ولو نذر أن يمشي إلى مكة ولم يذكر الحج، فقال: لله علي المشي إلى مكة، لزمه المشي إلى مكة في حج أو عمرة.
وكذلك لو حلف به فحنث، فإنه يلزمه المشي إلى مكة في حج أو عمرة، على المعروف من المذهب، كما تقدم.
واختلف المتأخرون في علة لزوم الحج أو العمرة، فقال بعضهم: لأن العادة في التزام المشي إلى مكة قصد الحج أو العمرة.
وقال آخرون؛ بل لأن ذلك يقتضي دخول الحرم، ولا يدخل إلا بإحرام، فصار قائل ذلك ملتزماً للإحرام.
ويتخرج على تحقيق العلة فروع:
الأول: لو قال: علي الذهاب إلى مكة، أو المسير أو المضي، أو ما شابههما، فقال ابن القاسم: لا شيء عليه إلا أن يذكر الحج أو العمرة أو يقصدهما، وتردد قوله في الركوب، وأوجب أشهب الحج أو العمرة في جميعهما، كالمشي.
الثاني: إذا حلف بالمشي إلى مكة أو البيت أو الكعبة أو الركن أو الحجر لزمه.
وإن قال: إلى الصفا أو المروة أو المقام أو زمزم أو منى أو عرفات، لم يلزمه.
وقال أصبغ: يلزمه في كل ما سمى مم اهو داخل في القرية، كالصفا والمروة والحطيم والأبطح والحجون وقعيقعان وأبي قبيس، وإن سمى ما هو خارج عن قرية مكة لم يلزمه.
وقال ابن حبيب: يلزمه إذا سمى الحرم أو ما هو فيه، ولا يلزمه إذا سمى ما هو خارج منه ما عدا عرفات، فإنه وإن كان من الحل، فهو من مشاعر الحج، فإذا نذر عرفات فقد نذر الحج.
الثالث: إذا كان الحالف من أهل الأقطار البعيدة، هل يتعين عليه الحج، أو يتخير بينه وبين العمرة؟ قولان للمتأخرين، مأخذهما ما تقدم من اعتبار العادة، أو دخول الحرم.
ثم النظر في المشي في ثلاثة أطراف: مبدؤه ومنتهاه وحكم العاجز عنه.
الطرف الأول: في مبدئه، وهو من حيث نوى، ولنقدم مقدمة جميلة، فنقول:
المعتبر في النذور النية، فإن عدمت فالعرف، فإن عدم فمقتضى اللفظ، فإن كان له مقتضيات، فهل يحمل على الأقل أو الأكثر؟ فيه الخلاف المتقدم.
فإذا نذر المشي، فإن كانت له نية، فمن حيث نوى إذ هو التزام لا يقضي به، وإنما المكلف موكول فيه إلى ديانته.
وإن لم تكن له نية، فإن اتحد موضع حلفه وحنثه مشى منه؛ إذ هو مقتضى اللفظ، إلا أن يكون هناك عرف فيرجع إليه.
فإن كان الموضع الذي حلف فيه وحنث، لا يبلغ منه إلى مكة إلى بعد ركوب البحر، فهل يلزمه بعد الركوب إلى أقرب المواضع أن ينزل منه ويمشي؛ إذ هو مقتضى اللفظ، أو له أن يركب إلى الموضع المعتاد؛ إذ هو العرف؟ للمتأخرين في ذلك قولان.
وإن كان موضع حنثه غير موضع حلفه ولا نية له، وهو على بر، مشى من حيث حنث أيضاً بناء على أن الحنث سبب. وقيل: من حيث حلف بناء على أنه شرط.
فإن كانت يمينه بمكة، فإن كان في وقت اليمين في المسجد خرج إلى الحل، وأحرم من هناك. وإن كانت في غير المسجد، مشى إلى المسجد، فصلى هناك إن قصد الصلاة ورؤية المسجد فيبصره، فإن رؤيته عبادة. وقيل: يخرج إلى الحل، فينشئ منه حجاً أو عمرة، حملاً لنيته على قصد ذلك.
وإذا مشى من غير مكة، فلا يتعين عليه موضع من البلد الذي مشى منه، إذ العادة عدم التعيين في ذلك.
الطرف الثاني: منتهى المشي. وهو الفراغ من أفعال ما مشى فيه من حج أو عمرة، فينتهي في العمرة بفراغه من السعي، وفي الحج بطواف الإفاضة.وقال ابن حبيب: يمشي في رمي الجمار.
الطرف الثالث: في حكم العجز عن المشي. ولا شك في أنه إذا أتى به في جميع الطريق دفعة واحدة، غير مفرق بين أجزائه بمقام خارج عن المعتاد، أجزأه وإن طال المقام، فإن كان مضطراً فكذلك، وإن كان مختاراً وطال به حتى تجاوز العام الذي خرج للحج فيه أو العمرة، وكانت يمينه متعلقة بعام بعينه، فقد أثم في التأخير ويلزمه القضاء على أصل المذهب.
ويختلف في إجزاء ذلك المشي المفرق. وإن لم يكن العام معيناً لم يأثم، وجرى الخلاف في إجراء المشي.
وإن أقام ولم يفته الحج في ذلك العام أجزأه، وقال ابن حبيب: لا يجزئه إلا أن يأتي بمشي متوال.
فإن ركب في بعض الطريق لعجز، وكان يسيراً جداً، فالمذهب أنه يجزئه، وعليه دم إن كان للركوب مقدار.
فإن كان مشيه يسيراً وكان قادراً فيما بعد، ألغى المشي الأول ووجب عليه مشي ثان.
وإن كان عاجزاً عن المشي اكتفى بالأول وأجزأه الهدي، لأنه غير مكلف بما لا يقدر عليه.
فإن تساوى ركوبه ومشيه، أو كان كل واحد منهما كثيراً، وجب الرجوع لتلافي ما ركب.
ويركب المواضع التي مشى، ويمشي المواضع التي ركب. وقيل: إن كان موضعه بعيداً جداً، لم يلزمه الرجوع لشيء مما ركب، فإن عجز في الثاني، لم يكلف العودة دفعة أخرى.
وإن ركب مختاراً، ففي بطلان مشيه قولان، وإذا قلنا: لا يبطل، فإنه يرجع ويمشي ما ركب ويهدي.
ولو مشى في الثاني الطريق أجمع، فقال ابن المواز: يسقط عنه الهدي، قال المتأخرون: كيف يسقط الهدى المقرر في ذمته بمشي غير واجب؟
فرع:
من حلف بالمشي فحنث، فمشى في حج، ففاته الحج، أجزأه ما مشى وجعلها عمرة، وقضى الحج قابلاً راكباً وأهدى.

.النوع الثالث: إتيان المساجد:

فإذا نذر إتيان مسجد من المساجد النائية عنه، لم يلزمه إلا المسجد الحرام، ومسجد المدينة، ومسجد إيلياء.
ولو ذكر المشي لم يلزمه في إتيانها.
وقال ابن وهب: يأتيها ماشياً، قال ابن المواز: وقد قيل: إن كان قريباً: الأميال ونحوها، أتى ماشياً.
ثم إذا لزمه إتيان مكة للصلاة في مسجدها، فإنه لا يدخل إلا محرماً، قاله القاضي أبو الحسن.
ولو لم يذكر مساجد هذه المواضع، ولم ينو الصلاة فيها، لم يلزمه إتيانها، إلا في مكة، فيلزمه على التفصيل المتقدم.
قال أبو الحسن اللخمي: وإن نذر مكي أو مدني الصلاة في مسجد بيت المقدس صلى في مسجد موضعه، وأجزأه. وإن نذر القدسي الصلاة في أحد هذين أتاهما. وإن نذر مدني الصلاة في المسجد الحرام، أو مكي الصلاة بمسجد الرسول أتاه، وذلك أحوط ليخرج من الخلاف، قال: وقياد قول مالك، رحمة الله عليه، أن يأتي المكي المدينة، ولا يأتي المدني مكة.
ولو ذكر موضعاً غير هذه الثلاث، فإن تعلقت به عبادة تختص به، لزمه إتيانه، ولو كان بمكة أو المدينة أو البيت المقدس كرباط أو جهاد ناجز، لكن لا يلزمه المشي ها هنا إن ذكره، إذ لم يرد أنه في مثل هذا عبادة.

.النوع الرابع: الضحايا والهدايا:

وقد مضى في الحج أحكام الهدايا، ونحن نتكلم الآن على ألفاظ.
الأول: من نذر التقرب بسوق شاة إلى مكة، لزمه ذبحها بمكة. وكذلك لو لم يذكر لفظ الضحية والقربة، بل قال: علي ذبح شاة بمكة، لزمه أيضاً. فإن أضاف إلى بلدة أخرى فهل يلزمه النحر بها، أو يجزئه نحرها بمكانه؟ فيه روايتان.
اللفظ الثاني: إذا قال: لله عليان أضحي ببدنة، لم تقم مقامها بقرة مع القدرة عليها. وأما مع العجز، ففي إجزائها عنها خلاف.
وكذلك الخلاف في إجزاء سبع من الغنم عند عجزه عن البقرة. ومذهب الكتاب: الإجزاء فيهما.
اللفظ الثالث: أن يقول: لله علي هدي فإن نوى شيئاً، فله نيته، وإلا فبدنة، فإن لم يجد فبقرة، فإن لم يجد وقصرت النفقة، رجوت أن تجزئه شاة. قال ابن القاسم: كان مالك يزحف بالشاة كرهاً، قال أشهب: عليه بدنة، وأدنى ما يلزمه شاة، إلا أن ينوي أفضل منها.
اللفظ الرابع: إذا قال: لله علي هدي هذا الشيء، أو حلف به، وهو من جنس ما يهدى، ويمكن وصوله من موضعه، وجب إخراجه بعينه، فإن كان معيناً، فهل يهديه أو يعوض عنه؟
قولان.
وإن لم يمكن وصول المهدى باعه واشترى بثمنه، ثم قيل: لا يشتري إلا من جنس الأول،وقيل: له أن يخالف إلى الأفضل.
فلو كان المنذور هديه من جنس ما لا يهدي، وهو ملك له، وجب عليه التعويض بثمنه هدياً، يبعثه يشتري به ثم؛ لأنه قصد صرف ثمنه في الهدي، ثم في جواز تقويمه على نفسه خلاف، هذا كله في ملكه، فلو كان المنذور ليس ملكاً له، فإن كان مما يتقوم، وهو ملك لغيره، فلا يلزمه لشيء، إلا أن يريد التزام ذلك متى ما ملكه، فيكون من باب العتق المعلق على الملك والطلاق المعلق على النكاح، والمشهور لزومه، وإن كان المنذور مما لا يتقوم، كالحر يلتزم هديه، فعليه هدي.
ولو لم يذكر الهدي، لكن التزم نحر حر، فإن كان أجنبياً، فظاهر المذهب أنه لا شيء عليه فيه، وعد نذراً في معصية.
وإن كان قريباً كالولد والوالدين، فإن ذكر ما يدل على الهدي، كذكر موضع من مواضع مكة أو منى، لزمه الهدي.
وإن اقتصر على قوله: أنا أنحر ولدي، فقال ابن القاسم في الكتاب: سئل مالك عنها، فأجاب بكفارة يمين، ثم سئل عنها بعد ذلك، فقال: إن كان إنما أراد بذلك وجه الهدي أن يهدي ابنه لله، رأيت عليه الهدي، وإن كان لم ينو ذلك، ولم يرده، فلا أرى عليه فيه شيئاً: كفارة ولا غيره. قال ابن القاسم: وذلك أحب إلي.
فرع:
قال أصبغ: قال ابن القاسم: لو كان لمن حلف بنحر ولده عدة أولاد أهدى عن كل واحد منهم هدياً، قال: وقد قيل: إن الهدي الواحد لجميعهم، والأول أحب إلي.
ولو قال: مالي في الكعبة أو في كسوة الكعبة أو في طيب الكعبة، فقال ابن القاسم: أرى أن يهدي ثلث ماله فيدفعه إلى الحجبة.
قال: وأما إذا قال: مالي في حطيم الكعبة، أو في الكعبة، أو في رتاج الكعبة، فلا أرى عليه شيئاً؛ لأن الكعبة لا تنقض. فتبنى بمال هذا، ولا ينقض الباب، فيجعل هذا فيه، قال: وسمعت مالكاً يقول: رتاج الكعبة هو الباب.
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليماً.